الأحد، 19 أكتوبر 2014

جبل صبر بتعز.. حارس التاريخ والمدينة


جبل صبر بتعز.. حارس التاريخ والمدينة


مجلة السياحة جبل صبر السياحي بمدينة تعز

مجلة السياحة : صنعاء : شموخ يطل على مدينة تعز.. ظل الغمام المنساب من بين القمم... بهاء القمر حينما يسكب شعاعه من الأعلى الى الأسفل... روعة المنظر وتحفة المشهد بين أحضان النسيم وشذرات السحر ، إنه جبل صبر " بفتح الصاد وكسر الباء"  الذي يعتبر الفناء الأول للراحة ‏والبهاء.

خمسة أشياء جذبت انتباهنا ونحن في طريقنا إليه، أولها تلك الطريق التي تنقل الزائر بمنتهى الدقة من الحالمة تعز إلى قمة ‏الجبل، منتزه الشيخ زايد السياحي، الزي التقليدي الذي يعد الجانب الأجمل ، والوجوه المفعمة بالأشجان، وأخيرا الجو الساحر للمنطقة . ‏

سابقنا الشمس قبل شروقها لننطلق من الحالمة تعز بعد أن جهزنا عدتنا.. وشوقنا ‏يزداد كلما اقتربنا من جبل صبر الذي طال ما اشتقنا لجماله والتجول بين حقوله الخضراء ‏وزهوره الملونة. وبدأنا نصعد أول منعطف من الجبل مودعين المدينة تاركينها لتكمل أحلامها ونومها بكل ‏هدوء وسعادة . وما هو الا وقت قصير حتى وصلنا إلى جانب منتزه الشيخ زايد بن سلطان ذو البناء ‏الضخم ومطلة على المدينة بالكامل، حيث مكثنا نراقب عن كثب تلك  الحركات والوجوه البريئة لأبناء الريف، ‏بعضهم على الرصيف يبع القات والفواكه والبعض في طريقهم الى العمل في الحقول والمدرجات ‏الخضراء وآخرون نازلون إلى المدينة. لقد اختلط هنا الحظر بالريف في مشهد متناغم جميل يضفي على النفس الواناَ من الراحة و‏المتعة.‏

‏وها نحن ذا نواصل سيرنا إلى الأعلى في المنعطفات الإسفلتية المتطورة وعلى يميننا ويسارنا تنتشر ‏المدرجات الزراعية الخضراء زاهية وخلابة للعقول. تتوسط تلك المدرجات منازل تقليدية وأهالي يعملون بكد ونشاط في هذه ‏الواحات الخضراء وكأنها لوحة فنية رسمت بيد فنان مبدع.‏



طابع خاص

للقرى المتناثرة على الجبل طابعها الخاص ولا تزال معظمها محتفظة بعاداتها وتقاليدها القديمة كما لا يزال اهلها محتفظين بالبساطة والاحتفاء بالزائر ‏حيث تصافحك الابتسامات قبل الأيادي. ما من زائر لصبر إلا ويقع أسيرا في عشق تلك المنطقة التي ‏تكسوها الخضرة المتدرجة الألوان، من الأخضر الباهت إلى العميق، كالزمرد تعطيك الإحساس بروح الجمال لهذا السندس ‏الأخضر والنباتات التي تنبثق من بين الأحجار، ناهيك عن أشجار الفاكهة المنتشرة بجوار كل منزل.‏

وفي منتصف الطريق المؤدية إلى قمة الجبل، وقفنا في منطقة (ذي مرين) المتميزة بإطلالتها الواسعة على كافة ارجاء مدينة ‏تعز لنشاهد من هناك تلك المدرجات الزراعية الخضراء القابعة في الأسفل، وقد شد انتباهنا كثرة تواجد السياح في هذا المكان ‏وهم يراقبون حركة المدينة التي تتلألأ وكأنها لمعان الماء في قعر البئر. ‏



مسجد أهل الكهف:

وبينما نحن في شوق ولهفة لنعانق العروس تاج الجبل، سحرتنا شذرات روحانية من يمين ‏الطريق في منطقة المعقاب، وسط واحة واسعة من الخضرة المختلطة بالأزاهير الملونة،  تتناثر ‏فيها بعض المنازل التقليدية هنا وهناك.... وكان منبع تلك الشذرات هو مسجد أهل الكهف.‏

‏ استقبلنا في المسجد الحاج قائد بابتسامات بريئة نابعة من وجهه وبداء يشرح لنا بعض التفاصيل عن ‏المسجد. بني المسجد بأحجار كلسية مطلية بالقضاض الأبيض بشكل مستطيل بمساحة 18 ‏متر وعرض ‏12 متر تقريباً, وللمسجد ثلاثة مداخل في المدخل الجنوبي بركة للماء مبطنة بالحجارة ‏والقضاض، وسقف المسجد خشبي مزخرف وأعمدته خشبية متصلة بأحجار عليها نقوش جميلة . وفي زاوية المسجد توجد غرفة صغيرة فيها فتحة الكهف بقطر 70 سم يقال أنها تمتد إلى ‏مدينة ثعبات الواقعة أسفل الجبل من جهة الشرق على بعد عدة كيلومترات وتهب منها رياح ‏أحيانا تطفي الفانوس أو الشمعة كما شرح لنا ذلك الحاج قائد. ويرتبط أسم المسجد بواقعة أهل ‏الكهف التي تعدد ذكرها في القرآن الكريم حسب اعتقاد الأهالي هناك. ويعتبر المسجد مزار ‏ديني حافل يزار سنوياً في اليوم العاشر من شهر رجب، وبجانبه مساحة واسعة تستخدم ‏في ذلك اليوم وهي تابعة للأوقاف. ويمكن ان تستغل تلك المساحة في إنشاء استراحة للزوار. وعندما نبتعد قليلا تطل ‏نظراتنا على شذرات روحانية مشابهة على مدى النظر لمسجد ابن علوان في منطقة يفرس، والذي ‏يرتاده أهالي صبر في ايام الجمع من كل اسبوع، وبنسبة عالية.



الهواء العليل

بعد طول اشتياق وصلنا إلى رأس جبل صبر الشامخ أعلى مكان في اليمن بعد جبل النبي شعيب، ‏والرياح الباردة واللطيفة تهب علينا من كل جانب، حيث تمتعنا برؤية تلك المدرجات الزراعية الرائعة المنتشرة من حولنا وعلى امتداد البصر شمالاً وشرقاً ‏وجنوباً وغرباً. وها هي ذا انظارنا تسافر بعيداَ من هناك لتصل إلى مناطق مشرعة وحدنان، ‏صالة والتعزية، بل وابعد من ذلك إلى دمنة خدير والراهدة حتى قلعة الدملؤة بمنطقة الصلو.

لحظات جميلة لن تنساها، فالهواء العليل يداعب وجنتيك لينسيك الهموم، ويزيدك رغبة للمكوث فترة اطول في هذا المكان الذي قد لا تلقى مثله في أي بقعة أخرى من بقاع الأرض. وما يثير الشجون حقاً هي تلك ‏اللحظات التي تقع فيها عيناك مساءاً على اضواء مدينة عدن وهي تتلألأ في بحر من الظلام، فتكاد تطير إليها ‏لتسبح في بحرها الساحر.‏



طيور الجبل:

وقبل ان يمزق ضوء الفجر عباءة الليل، نهضنا باكراً لنستنشق نسيم الصباح، ونتجول بين قطرات الندى التي تملأ اوراق الأشجار، واذا ‏بالطيور والعصافير قد نهضت من أعشاشها محلقةً في الفضاء ومغردةً فوق فروع تلك الأشجار ابتهاجاً بمولد فجر جديد.

وقد لفت انتباهنا صوت مميز لطير (أبو كحيل ) وهو يوقظ الطيور من نومها بصوته العالي رغم ‏صغر حجمه، فقد لا تراه إلا بصعوبة فوق أغصان الأشجار الخفيفة. وتجد هناك ايضاً (البلبل الجبلي)، وهو مختلف عن بلبل القيعان حيث يفضل العيش في أعالي الجبال وله صوت شجي ‏وجميل. وعادة ما نرى طائر العقاب الكبير والذي يظهر في موسم البذور في شهر نيسان، والذي يقوم بنبش البذور ‏التي يبذرها الفلاحون، فيقوم البعض منهم بوضع قطعة بيضاء من القماش أوغيرها وسط الحقول لتحركها الرياح فتهرب ‏العقبان منها، ولا يعرف أين تختفي بقية شهور السنة. وهناك طيور أخرى متنوعة وكثيرة ‏مثل الحمام وطير (مريم الراعية) كما يسمى هنا في جبل صبر.



الفواكه والمزروعات:

لا نتناول الفرسك والرمان والبلس إلا ويذكرنا بجبل صبر المشهور بزراعة هذه الفواكه، والتي ‏نراها تباع في الأرصفة في الطريق إلى الجبل. وأكثر ما تزرع في منطقة عبدان المسراخ في شرقي ‏صبر المشهور بوفرة المياه، حيث تخرج منه في الصيف ما يقارب 120 عين ماء إضافية.  أما المزروعات فهي ‏التي ميزت الجبل عن غيره وغطته باللون الأخضر، ومن هذه المزروعات الشعير والذرة والثوم ‏والبطاطس والحنطة والفول، والتي يذهب الأهالي لبيعها في  مدينة تعز واسواق النشمة، المسراخ يوم الخميس. كما يكثر هناك زراعة المشاقر التي يتزين بها الفتيات .. وهي من النباتات العطرية التي تزرع بأنواع متعددة ‏كالريحان والورد والنرجس،  وهي ما تميز الفتاة الصبرية عن غيرها.



الحياة تقليدية:

وللحياة الاجتماعية في جبل صبر إيقاع خاص ،حيث لايزال السكان هناك محافظين على ارتداء ‏الملبوسات الشعبية المتوارثة عن الآباء والأجداد وخاصة النساء اللاتي يرتدين الزي الشعبي والحلي التقليدية،  حتى أصبحت ‏صبر مصدر الإلهام والإبداع الفني للعديد من الأدباء والفنانين، الذين استطاعوا تجسيد ذلك في العديد من ‏اللوحات التشكيلية ، الصور الفوتوغرافية ، القصص الأدبية والقصائد الشعرية المغناة.‏

كما لا يزال الأهالي محافظين على نمط الحياة التقليدية القديمة مثل نقل الماء من الآبار فوق ظهور الحمير، و‏استخراجه من الآبار بالطريقة التقليدية بواسطة الدلو،  حيث تقوم احدى الفتيات بمساعدة الأخرى في سحب الحبل بنشاط وهن ‏يتغنين بالأهازيج الخاصة بذلك. ولشهرته بالخضرة والزراعة والحياة التقليدية القديمة، فقد أصبح ‏جبل صبر مزاراً يتوافد إليه السياح الأجانب، والزائرون من معظم محافظات الجمهورية إلى جانب سكان مدينة تعز، والذي اصبح بالنسبة لهم المتنفس الأول الذي يجدون فيه  الراحة والهروب من ازدحام المدينة.‏



المقالح والفضول في صبر:

حب المعرفة جعلت أديب اليمن الكبير الدكتور/ عبدالعزيز المقالح يزور صبر قبل اكثر من 40 عاماً ليستمتع بما فيها من الجمال ‏وروعة الحياة، حيث بدت له مدينة تعز من هناك كأنها رمانة ياقوتية مفتوحة. وقد ترجم ذلك ‏الإحساس في كتابه الجديد (كتاب المدن) الذي تحدث فيه عن جبل صبر ومدينة تعز.

اما بالنسبة للشاعر الغنائي الكبير الأستاذ/ عبدالله عبدالوهاب نعمان الذي اشتهر بلقب "الفضول" ، فقد قضى جزء من حياته في جنبات جبل صبر، فانشد في جماله وروعته أجمل الأشعار التي تغنى بها الفنان ‏الكبير أيوب طارش العبسي.  وقد توارث أبناء الفضول من بعده عادة قضاء جزء من حياتهم هناك.‏



جمال مخفي خلف الضباب:

لم تكتمل الى هنا رحلتنا في قمة رأس الجبل المليء بالضباب، وإنما بدأنا بالشوط الأخير منها لنكتشف ما اخفاه عنا ‏الضباب في‏‏ الجهة الأخرى المطلة على الريف. كان الجو أكثر نقاءاً والهواء اكثر إنعاشاً، تفوح منه رائحة المدرجات ‏الخضراء التي تتخللها قرى عديدة متناثرة هنا وهناك على ظهر الجبل الشامخ. ومن القرى التي ‏تراها أمامك قرى حَصان النجادة والشقب،  التي تنتهي طريقها الرملية في مديرية دمنة خدير، التي نأمل ان يتم تعبيدها في القريب العاجل لكي يتسنى للزائرين والسواح الأجانب الوصول الى الجهة الخلفية من الجبل.‏

لم نرتوي من عبق ونضارة جبل صبر، ومهما أجبرتنا الحياة على أن نفارق من نحب فسنعود إلى أحضانها ‏مرات ومرات...‏
مشاركة
0

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق