الأحد، 19 أكتوبر 2014

المَخـَـا.. مدينـة بنكهة البُـن


المَخـَـا.. مدينـة بنكهة البُـن


مجلة السياحة : زارها :المخاياسين التميمي: المَخـَـا.. مدينة إستثنائية في الذاكرة، وهي في الواقع قصة رائعة للشموخ والحضور المتألق في بلد تسكن حضارته في ذاكرة المعجبين من كل أنحاء العالم.. لخمسة قرون ظلت مدينة المَخـَـا سيدة مدائن البحر الأحمر وعروسه الأثيرة، وكانت الرئة التي يتنفس منها أهل اليمن، ونافذتهم المشرعة على العالم، وهي إلى ذلك بندر تَعِزْ الأثيرة على النفس.. على ساحتها ترسخت تقاليد تجارية ونمت خبرة أهل اليمن في التعامل التجاري مع الآخرين، ونمت معها أذواقهم، وانعكس ذلك في أساليب معيشتهم، وفي مظاهر البحبوحة التي ظل ينعم بها سكانها اليمنيون وزوارها والمقيمون فيها من كل الجنسيات حتى أوائل القرن العشرين.عبر هذه المدينة أقامت اليمن علاقاتها مع الآخرين وفق مقاييس متحضرة كانت تتجاوز الواقع المهمش في الداخل بعشرات السنين.

هنا فتحت الدول الكبرى مكاتبها القنصلية ووكالاتها التجارية بالود أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى.. لقد كانت المَخـَـا فرصة اقتصادية لا تقاوم، وكانت مدينة ذات طابع عالميٍ تَخَلَّق عنه جو خاص أضحت معه المدينة سوقاً كبيراً بمقاييس عالمية استقطب إليه كل الناشطين في قطاع التجارة والملاحة البحرية من الشرق والغرب.



المَخـَـا.. مدينة بنكهة البُن:

لم يكن هذا الوضع الاستثنائي والنشط لمدينة المَخـَـا إفراز مرحلة تاريخية بعينها ولكنه كان نتاجاً لتراكم زمني ومعطيات طبيعية وجغرافية وديموغرافية، تمكنت من خلالها هذه المدينة من القيام بدور تجاري ارتبط في البداية بحاجة البلاد إلى التواصل مع العالم الخارجي بغرض تبادل المنافع والمصالح ضمن أسلوب المقايضة الذي كان سائداً قبل القرن السابع عشر، واستمر هذا الدور في النمو إلى أن بلغ ذروته بحلول القرن الثامن عشر، حينها اتسم دور المدينة بتحول جذري وغير مسبوق.

وعلى الرغم من أن هذا التحول الذي شهدته مدينة المَخـَـا قد تزامن مع الحضور القوي لأساطيل الغرب التجارية والعسكرية وازدهار نشاط ما كان يعرف بشركات الهند الشرقية : الإنجليزية والهولندية والفرنسية والبرتغالية في المحيط الهندي والبحرين العربي والأحمر ، إلا أن نقطة الاهتمام الرئيسية انصبت حول موضوع البن كسلعة زراعية اكتسبت شهرتها من خلال الرواج الكبير لمشروب القهوة على يد الأتراك ، الذين كانوا إبان تلك الفترة يسيطرون على المَخـَـا ومعها اليمن وشبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي، وكانوا يفرضون أذواقهم في مناطق عدة من أوروبا الشرقية والوسطى والجنوبية إما من خلال الوجود المباشر أو من خلال التَماس الحضاري.

وبفعل اتساع قاعدة مستهلكي مشروب القهوة في أوروبا أضحى البن مادة تجارية مغرية وجديرة بالمنافسة.. وفي تلك الفترة كانت المَخـَـا مدينة بنكهة البن، لأنها كانت المنفذ الرئيسي الذي يُصدّر منه البُن إلى العالم، ومنها استمدت هذه السلعة الهامة إسمها من هذه المدينة «موكا» هذا الاسم الذي أطلق على المقاهي والشوارع في أوروبا، وأحتفظ بأهميته الخاصة حتى اليوم، بل وأصبح ماركة تجارية أصيلة تروجها أكثر المحلات التجارية شهرة في أوروبا وأمريكا والعالم. وبموازاة هذه السلعة الرائجة شهدت المَخـَـا تبادلاً تجارياً نشطاً لمختلف السلع التي كانت تأتي من الشرق والغرب ليتلقفها وسطاء تجاريون وينقلونها إلى أماكن وبلدان أخرى، وازدهرت صناعة القوارب، وعاشت المدينة أوج ازدهارها حتى أواخر القرن التاسع عشر.



النهاية والذكريات:

ثَمة عوامل بعضها سياسي وبعضها إقتصادي، وبعضها طبيعي، جميعها أسهمت في تقليص دور هذه المدينة وتهميشه، فبعد أن تلقت مدينة المَخـَـا آخر الضربات العسكرية الموجعة على يد البحرية الايطالية أوائل العقد الثاني من القرن العشرين المنصرم على خلفية الحرب العالمية الأولى نظراً لوقوع المدينة تحت السيطرة التركية، وتعرض محيطها الغني بالبساتين وأشجار النخيل الباسقة التي كانت تحمي المدينة من رياح الصيف إلى سيول عاتية في عشرينيات القرن المنصرم، كانت عدن البريطانية تستأثر بالدور الأهم في خليج عدن والبحر الأحمر، وتستقطب كل الأنشطة التجارية، في حين كان قد تمكن عدد من العلماء الفرنسيين والبريطانيين من نقل شتلات البُن اليمني إلى البرازيل واندونيسيا، لتدخل هذه السلعة في السوق العالمية على نطاق واسع كواحدة من السلع الاقتصادية الهامة في تلك الفترة.

لكن المَخـَـا رغم كل ذلك لم تفقد أهميتها إذ مازالت تحتفظ في الذاكرة الوطنية والعالمية بألقٍ خاص.. إن قروناً من الحضور الرائع على الساحة العالمية لا يمكن أن تضع هذه المدينة في خانة النسيان، ففي هذه المدينة الكثير والكثير من الأشياء والذكريات الجميلة، إنها تستمد جمالها وتميزها من حالة إستثنائية عاشت فيها المدينة وأهلها قمة الإزدهار الإقتصادي وتمتعت بعمران قلّ نظيره وتجاوز حال الداخل بعقود من التطور والرخاء.  

ووصفها الرحالة الأوروبيون الذين زاروها خلال القرن التاسع عشر بأنها من أكثر مدن البحر الأحمر ازدهاراً وصفواً، بيوتها الجميلة وقصورها الفخمة، ووكالاتها التجارية النشطة، والقنصليات والفنار الكبير الذي كان طوله يصل إلى «54 متراً» وكان الأكبر في المنطقة آنذاك.



دلائل مادية بسيطة

كان لمدينة المَخـَـا في أوج عزها سور بسبعة أبواب يحيط بها من كل الجهات، لم يبق منه ومن أبوابه سوى أطلال مدفونة تحت الرمال، كما لم يتبق من فنارها الشهير الذي بناه الفرنسيون نظير امتيازات تجارية خاصة إلا دلائل مادية بسيطة، ولسانها البحري القديم، ومخازن البضائع التي بناها الأتراك والمعروفة بـ«الجير خانة» لم يتبق منهما إلا الأطلال وبقايا حجارة متراكمة ومقاطع اقتربت كثيراً من الأرض، وكاد زحف الرمال أن يُجهز على المدينة بعد أن أسهم في اخفاء أبرز معالمها.

وربما كان سِرُّ ولي المدينة الشهير «الشَاذِلي» من القوة بحيث صمدت به قبته ومسجده اللذان يعدان من معالم المدينة الرئيسية ويستقطبان أعداداً كبيرة من الزوار المحليين في مواسم معينة، ويزورها أيضاً عدد من السياح الأجانب.

وتشهد المباني المتبقية في المدينة وتخطيط شوارعها الفسيحة وواجهتها المطلة على البحر، والتفاصيل الدقيقة والبديعة لمشربياتها ذات الطابع الشرقي وهي تزين واجهات بيوت الأثرياء والوجهاء وحتى البسطاء من الناس وتقاوم تأثير الزمن وعوامل الطبيعة، على مرحلة استثنائية من تاريخ المدينة عندما قادها دورها لتكون حاضرة في العالم كما كان العالم أيضاً حاضراً في قلبها. سكان المدينة يبدو على ملامحهم كل الأجناس ووجد سكانها الحاليون أنفسهم جزءاً من ذكريات جميلة.. ونتجه لذلك النوع من الرحلات المغامرة التي كانت نهايتها في المَخـَـا تعد بالنسبة لكثير من القادمين إليها حلماً رائعاً.



كنز سياحي في دائرة النسيان:

هذا الطابع الاستثنائي لمدينة المَخـَـا وسمعتها المتأصلة في الذاكرة الوطنية والعالمية ينبغي أن يولّد إحساساً استثنائياً لدى القائمين على السياحة والتجارة وعلى السلطات المحلية في محافظة تَعِزْ بضرورة تنشيط السياحة الداخلية والخارجية إلى هذه المدينة، ومن المهم أن تتولّد مواقف إيجابية تجاه هذه المدينة التي يَتَخَّلق من ماضيها وسمعتها وتأريخها منتج سياحي حقيقي جدير بالمنافسة.

لقد تسنى لي رؤية عدد من السّياح الأجانب في هذه المدينة، وأعتقد أن الكثير منهم يودون زيارتها  مرة أخرى، خصوصاً وأن القادمين من أوروبا يشعرون بأهمية هذه المدينة التي لعبت دوراً هاماً في تاريخهم، فالاسم « موكا» هو الاسم الذي ينفتح وعيهم عليه لإلتصاقه بأكثر المشروبات شعبية في العالم حتى يومنا هذا.

ومازال في المَخـَـا الكثير مما يجب أن نتعلمه ونفهمه.. إنها المدينة التي تفيض بالدلالات الجمالية والتاريخية والثقافية والانثروبولوجية، وهي الأجدر بالمنافسة السياحية، فكل تلك الدلالات تصنع منتجاً سياحياً رائعاً لا يحتاج إلى كثير من العناء في ترويجه، كما لا يستحق أن نواجهه بكل هذا الإهمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق